تركيا- مسار جديد لحل القضية الكردية بفرص أفضل

المؤلف: د. سعيد الحاج09.25.2025
تركيا- مسار جديد لحل القضية الكردية بفرص أفضل

في ظل نداء الزعيم القومي دولت بهتشلي، الشخصية البارزة في حزب الحركة القومية، والذي يدعو الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، إلى إعلان حل التنظيم وإنهاء كافة عملياته، ومع إبداء أوجلان استعداده للانخراط بإيجابية و"إلقاء الخطاب الضروري"، يبدو أن تركيا على أعتاب حقبة سياسية جديدة تهدف إلى إيجاد حل جذري للقضية الكردية، مع فرص تبدو واعدة أكثر من أي وقت مضى.

عملية التسوية

في السنوات الأولى من توليه السلطة، وتحديدًا في عام 2005، أعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، وبشكل علني في مدينة ديار بكر، التي تعتبر قلب المنطقة الكردية، عن وجود "مشكلة كردية" في البلاد، متعهدًا بإيجاد حل لها.

وعقب سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية التي شملت الحق في استخدام لغات أخرى غير التركية (مع التركيز بشكل خاص على اللغة الكردية) في مجالات التعليم والإعلام والقضاء وغيرها، بالإضافة إلى تشديد العقوبات على جرائم التمييز والكراهية على أساس عرقي وديني، وتنفيذ مشاريع تنموية في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية، أطلقت الحكومة التركية مسارًا سياسيًا أطلقت عليه اسم "عملية التسوية" مع حزب العمال الكردستاني؛ بهدف نزع سلاحه ووقف العمليات الإرهابية التي بدأها عام 1984، والتي أودت بحياة أكثر من 40 ألف شخص، بالإضافة إلى خسائر مادية تقدر بمئات المليارات من الدولارات.

في عام 2009، تم الكشف عن وجود قناة تفاوض بين جهاز الاستخبارات التركي وحزب العمال الكردستاني، الأمر الذي عرض رئيس الجهاز آنذاك (وزير الخارجية الحالي) هاكان فيدان لمساءلة قانونية بتدبير من جماعة كولن، التي كانت قد بدأت صراعًا على السلطة مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية.

في "عيد النوروز" عام 2013، أطلق عبد الله أوجلان نداءً تاريخيًا من سجنه في إيمرالي، حيث يقضي عقوبة السجن المؤبد، يدعو فيه مسلحي حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح ومغادرة الأراضي التركية، وهو النداء الذي كرره بعد عامين في مارس/آذار 2015.

تم الإعلان حينها عن وثيقة سياسية مكونة من عشر نقاط بين الحكومة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي، الذي كان يُنظر إليه على أنه الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، وكان له دور محوري في المسار السياسي. إلا أن حزب العمال الكردستاني، وبعد تباطؤه في سحب مسلحيه من تركيا، استأنف عملياته في يوليو/تموز 2015 متأثرًا بالظروف الإقليمية، وخاصة التطورات في سوريا، حيث كانت وحدات حماية الشعب قد أعلنت إدارات ذاتية في شمال سوريا، مما أدى إلى انهيار عملية التسوية.

أخطاء الماضي

منذ عام 2015، حدثت تحولات كبيرة. استأنف حزب العمال الكردستاني عملياته، وردت السلطات التركية بشن حرب مدن في المناطق ذات الأغلبية الكردية التي أعلن فيها عن إدارات ذاتية، ثم بدأت سلسلة من العمليات العسكرية في العراق تحت اسم "المخلب"، وفي شمال سوريا بدأت بعملية "درع الفرات" في عام 2016؛ بهدف إضعاف إمكانية إنشاء كيان سياسي موالٍ له هناك، وما زالت أنقرة تلوح بعملية جديدة في شرق الفرات.

اليوم، وبينما تستعد تركيا لمسار سياسي مرتقب لم يتم الكشف عن تفاصيله بالكامل، تجري عملية تقييم غير رسمية للمسار السابق والأخطاء التي ربما ساهمت في انهياره وفشله. وعلى رأس هذه الأخطاء أن المسار تبنته وعملت عليه الحكومة ومؤسسات الدولة بشكل شبه منفرد، ولم يكن هناك دور واضح للبرلمان والأحزاب السياسية الأخرى.

فالمواقف القومية تجاه القضية الكردية معروفة بتشددها، وبالتالي تجاه مسار التسوية السابق، كما أن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، تجنب تأييد العملية. بل ظهرت بعض الخلافات في وجهات النظر بين الحكومة وأردوغان فيما يتعلق بـ "وثيقة النقاط العشر" في ذلك الوقت.

كما أن جماعة كولن استغلت عملية التسوية لتصفية حسابات مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وكانت محاولة التحقيق مع هاكان فيدان في عام 2012 بمثابة الشرارة الأولى للمواجهة، التي انتهت بمحاولة الانقلاب الدموية في عام 2016.

أخيرًا، كانت الظروف الإقليمية غير مواتية، حيث إن الحضور والنفوذ الذي اكتسبه حزب الاتحاد الديمقراطي، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، وأذرعه العسكرية، شجع الأخير على التخلي عن مسار التسوية والعودة إلى العمليات العسكرية في تركيا، على أمل تحقيق نفس المكاسب على الأراضي التركية، وهو ما فشل لاحقًا.

فرص أفضل

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دعا حليف أردوغان ورئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، إلى تبني مسار لإنهاء مشكلة الإرهاب في البلاد، من خلال إلقاء أوجلان خطابًا أمام الكتلة البرلمانية لحزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب (الخلف لحزب الشعوب الديمقراطي) يعلن فيه عن حل التنظيم ووقف العمليات، وهو ما فهم على أنه إشارة إلى مسار سياسي جديد، وقد قدم أوجلان تجاهه إشارات إيجابية حتى الآن.

على مدى سنوات طويلة، نفى المسؤولون الأتراك إمكانية إطلاق عملية تسوية جديدة على نفس النمط مع حزب العمال الكردستاني، مؤكدين على ضرورة إضعاف قدرات المنظمة الانفصالية قبل أي حوار سياسي، والاعتماد على سياسة الحرب الاستباقية وتجفيف منابع الإرهاب في الخارج.

اليوم، وعلى الرغم من الإصرار على عدم تسمية الأمر بـ "عملية تسوية"، حيث أطلق عليها بهتشلي اسم "مشروع تركيا بلا إرهاب"، وعلى الرغم من غياب برنامج واضح ومفصل، يلاحظ المراقب وجود مسار سياسي لا يزال في مراحله الأولى، ولكنه يحمل فرص نجاح أكبر بكثير من عملية التسوية السابقة، وذلك لعدة أسباب:

أولاً، تركيا اليوم أقوى على الصعيد الداخلي وأكثر نفوذًا على الصعيد الخارجي، وفي وضع أفضل أمام الإدارة الأميركية الجديدة، خاصة بعد سقوط النظام في سوريا، بالإضافة إلى نجاحها في مكافحة حزب العمال الكردستاني في كل من العراق وسوريا، مما أدى إلى تراجع ملحوظ في وتيرة العمليات الإرهابية، وكذلك في أعداد المنضمين إلى المنظمة، وزيادة عدد المغادرين وتسليم أنفسهم للسلطات التركية.

يضاف إلى ذلك، ثانيًا، التغيرات الجذرية في الأوضاع الإقليمية، حيث يبدو العراق اليوم بكيانه الموحد، بما في ذلك حكومة المركز وإقليم كردستان العراق، أكثر تفهمًا لمقتضيات الأمن القومي التركي وأكثر تعاونًا معه، بما في ذلك تصنيف حزب العمال الكردستاني كمنظمة محظورة.

وفي سوريا، تواجه قوات سوريا الديمقراطية "قسد" تحديات كبيرة بعد سقوط النظام وتشكيل إدارة جديدة للبلاد تشارك تركيا الخطوط الحمراء المتعلقة بوحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم، بالإضافة إلى قلقها من رؤية ترامب لوجود قوات بلاده في سوريا، وسيطرة "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا على كل من تل رفعت ومنبج، وتأكيد أنقرة على أنه "لا مكان للمنظمات الإرهابية في سوريا الجديدة".

ثالثًا، لم يعد مبرر مكافحة تنظيم الدولة بنفس الزخم السابق، حيث تملك دمشق وأنقرة حججًا قوية لإقناع واشنطن بأن الحكومة السورية الجديدة قادرة على تولي هذه المهمة بالتعاون مع تركيا، وكذلك العشائر العربية في "الجزيرة السورية"، مما يدحض فكرة الحاجة إلى قوات "قسد" والاستمرار في دعم منظمات غير تابعة لدولة في ظل وجود نواة لحكومة مركزية.

أخيرًا، يبدو المناخ الداخلي أكثر استعدادًا لدعم المسار الجديد المحتمل. فالدعوة الأولى جاءت من أكثر الشخصيات تشددًا في التعامل مع القضية الكردية، وهو بهتشلي، مما يريح الحكومة إلى حد كبير. كما أعلن رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، عن عدم معارضته للمسار، بالإضافة إلى دعم أحزاب معارضة أخرى، باستثناء حزب الجيد القومي المنشق عن الحركة القومية لأسباب واضحة.

كما أن هناك حرصًا على إعطاء دور بارز وأساسي للبرلمان التركي في المسار الجديد، حيث كانت الزيارة الأولى للوفد الذي زار أوجلان في سجنه لرئيس البرلمان نعمان كورتولموش بمثابة رسالة رمزية واضحة، كما كانت زيارته الثانية لبهتشلي صاحب الدعوة الأولى.

في المقابل، صدرت إشارات إيجابية حتى الآن من أوجلان نفسه، ومن حزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب، ومن الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش، وهو شخصية قوية ومؤثرة وذات ثقل رمزي كبير. حتى قيادات حزب العمال الكردستاني العسكرية في جبال قنديل في العراق، والتي كانت قد ألمحت إلى معارضتها في البداية، صدر عنها ما يمكن فهمه على أنه دعم مشروط للمسار، حيث تحدثت عن ضرورة "دعم موقف أوجلان" من خلال زيادة الضغط على أنقرة بعمليات جديدة، وهو أمر قد يكون إشكاليًا وقد يشكل عائقًا، ولكنه قد يُفسر على أنه استسلام لواقع المسار المنتظر وضرورة التفاعل معه، بالإضافة إلى عدم السيطرة الكاملة على قرار حزب العمال الكردستاني وصعوبة تحجيم أوجلان وتحييده.

في الخلاصة، هناك عوامل داخلية وخارجية عديدة تعزز من فرص نجاح المسار السياسي الجديد لحل القضية الكردية في تركيا. وبينما تبدو الحكومة غير متحمسة للإعلان عن جدول أعمال معلن، بل تتجنب استخدام أي مصطلح يشير إلى فكرة "التفاوض" مع حزب العمال الكردستاني، فإن المسار يعبر عن نفسه من خلال خطوات وتصريحات ثابتة وواضحة ومباشرة.

يبقى أن نقول إن التقييم الحقيقي والدقيق لفرص نجاح المسار، وبالتالي تخليص أنقرة بشكل كامل ونهائي من خطر الإرهاب بتداعياته وتكاليفه البشرية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، سيعتمد على عدة عوامل في مقدمتها تفاصيل المسار السياسي المنتظر، وكذلك التطورات الإقليمية وفي مقدمتها سوريا، وتحديدًا الموقف الأميركي من "قسد" والتعامل مع تركيا في الملفات الخلافية الأساسية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة